ورقة بحثية
من إعداد الطالب الجامعي : محمد المريني
تنضيب : قديري المكي الخلافة
متخصص في القانون الخاص
الإنسان حر في تصرفاته مبدئيا، وإن كانت هاته الحرية ليست مطلقة، حيث قد تصطدم بحاجز مانع هو عدم الإضرار بالغير، ومنه نشأت قاعدة عدم التعسف في إستعمال الحق، والذي مفادها أن حرية التصرف مقيدة بحدود قد يفرضها إما القانون أو الإتفاق كما قد تفرضها الأخلاق، وبمجرد تجاوز تلك الحدود تقوم المسؤولية، وتتنوع المسؤولية بين ما هو إداري أو جنائي أو مدني، وخاصة فيما يخص هذا المجال الأخير الذي تعرف المسؤولية فيه بكونها الإلتزام بتعويض الضرر المترتب عن الإخلال بالتزام أصلي، والذي يظهر على شكل صورتين إما تقصيرية أو عقدية، فإذا كان قيام المسؤولية ناتج عن إخلال بالتزام قانوني فإنها تكون تقصيرية، أما إذا كانت تقوم على أساس إخلال بالتزام عقدي فهي مسؤولية عقدية (1).
وعليه، ماهي الأسس النظرية والعملية للتمييز بين كل من المسؤوليتين التقصيرية والعقدية؟ وإلى أي حد يمكن أن نفرق بينهما ؟
يعتبر موضوع الوحدة والإزدواجية في نظام المسؤولية المدنية من المواضيع التي شغلت بال الفكر القانوني منذ نهاية القرن 19 (2)، حيث أصبح فقهاء القانون يميزون بين مفهوم الخطا العقدي والخطأ التقصيري، وذلك ما يتبين من خلال مجموعة من الدراسات والأبحاث التي أقيمت في هذا الموضوع، وهو ما أسفر عنه بروز أكثر من عنصر إختلاف بين كل من المسؤوليتين العقدية والتقصيرية يمكن ملاحظتها من خلال تدقيق النظر في أنواع المسؤولية المدنية إنطلاقا من عدة زوايا مختلفة، وهو ما يظهر سواء من حيث إختلاف المصادر التي تقوم عليها كل من المسؤولية العقدية أو التقصيرية، أو إنطلاقا من زاوية تاثير أحكام الأهلية على قيام كل من المسؤوليتين، أو من حيث إختلاف طبيعة الأضرار المعوض عنها في المسؤوليتين، وأخيرا من حيث أحكام دعويي المسؤوليتين العقدية والتقصيرية.
أولا: من حيث إختلاف المصادر التي تقوم عليها كل من المسؤولية التقصيرية والعقدية:
جرى الفقه القانوني على التمييز بين نوعين من المسؤولية المدنية، فعرف المسؤولية الناشئة عن الإخلال بالتزام عقدي مسؤولية عقدية (3)، أما المسؤولية المترتبة عن الإخلال بالتزام قانوني فهي مسؤولية تقصيرية، ويفترض في النوع الأول قيام رابطة عقدية بين المسؤول والمضرور، ومثالها مسؤولية المقاول عن التأخير في تشييد إقامة البناء الذي سبق وأن تعهد بإنجازه داخل أجل معين كما هو متفق عليه مسبقا.
أما المسؤولية التقصيرية فتتجلى حين تنتفي الرابطة العقدية، وقد نظمها المشرع المغربي ضمن قانون الإلتزامات واللعقود إبتداءا من الفصل 77إلى غاية الفصل 88 منه، والتي تأخد شكل مجموعة من الصور نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مسؤولية الآباء عن أفعال أبنائهم القاصرين(4)، وكذا مسؤولية حارس الحيوان، والمسؤولية عن العمل الشخصي وغيرها.
ثانيا: من حيث تأثير أحكام الأهلية على قيام كل من المسؤولية التقصيرية والعقدية:
تمثل الأهلية بصورة عامة صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الإلتزامات، وممارسة التصرفات القانونية التي من شأنها أن تكسبه حقا أو تحمله إلتزاما، وعليه من خلال هذا التعريف يتبين لنا أن الأهلية تنقسم إلى شقين:
أهلية الوجوب وأهلية الأداء، فبالنسبة للأولى تتحدد بكونها صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يحددها القانون، وهي عامة ملازمة للشخص طول حياته، ولا يمكن حرمانه منها (5سرةمغر).
إن الأصل في الشخص هو كمال الأهلية مالم يصرح القانون بخلاف ذلك، وهذا ما نصت عليه الفقرة الثامنة من الفصل 3 من ق.ل.ع الذي جاء فيه : كل شخص أهل للإلتزام مالم يصرح قانون أحواله الشخصية بغير ذلك، ولذلك من أجل تحمل المسؤواية العقدية لابد أن يكون المدين كامل الأهلية، أي بالغا لسن الرشد القانوني طبقا لمقتضيات مدونة الأسرة المغربية من خلالالمادتين 209 و 210 باكتمال سن 188 سنة شمسية، أخذا بعين الإعتبار الشخص المرشد أي الذي بلغ سن 16 سنة وثبت حسن تدبيره لمصالحه، وذلك طبقا لما جاء حسب المادة 211 من نفس القانون.
فإذا كان الشخص قاصرا وتصرف بدون نائبه أو وليه الشرعي فيبقى العقد قابلا للإبطال بل وباطل إذا أبرمه عديم التمييز.
أما فيما يخص تأثير الأهلية عن قيام المسؤولية التقصيرية فإن هذه الأخيرة تقرر بمجرد بلوغ مرتكب الفعل الضار 12 سنة شمسية كاملة (6)، وحيث يسأل القاصر عن الضرر الحاصل بفعله متى كان له من التمييز الدرجة اللازمة لتقدير آثار فعله (7).
ثالثا: من حيث طبيعة الضرر المعوض عنه في كل من المسؤوليتين:
الضرر أساس قيام المسؤولية المدنية فبدونه لا يمكن للشخص المطالبة بالتعويض، حيث يعرف الضرر عامة بكونه الأذى الذي يلحق الشخص في حق من حقوقه أو مصالحه المشروعة، سواء تعلق بجسده أو ماله أو حتى بإعتباره المعنوي وكرامته (8).
فيما يخص الضرر المعوض عنه في المسؤولية العقدية، فإنه لا يعوض عنه إلا إذا كان ماديا،ومنه ما يصيب الشخص في جسمه مثلا كجرائم الضرب والجرح والقتل بكافة صورهم العمدية وغير العمدية، أو ما يصيبه في ماله مثلا كجرائم السرقة والإحتيال والنصب وغيرها، في حين قد يكون الضرر العقدي معنوي قد يصيب المتضرر في كرامته أو شرفه أو نحو ذلك، مثلا كحالة إفشاء الطبيب لأسرار المريض، في حالات يمكن القول على أنها نادرة جدا بالمقارنة والضرر المعنوي الذي هو شائع بصورة غالبة في الواقع، بحيث يجب التعويض عنه في كلتي الحالتين، ومسؤولية تقدير التعويض متروكة لتقدير القاضي (9)،
فبخصوص الضرر الذي يترتب عن المسؤولية التقصيرية فقد تطرق له المشرع في قانون الإلتزامات والعقود من خلال الفصل 98 من ق.ل.ل، الذي أكد من خلاله بأن الضرر في الجرائم واشباهها هو الخسارة التي إضطر أو سيضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي أرتكب إضرارا به، وكذلك ما حرم منه من نفع في دائرة الحدود المادية لنتائج هذا الفعل الذي ارتكب إضرارا به، وكذى ما حرم منه نفع في الدائرة المادية لنتائج فعله (10)
والمسؤولية التقصيرية جاءت أشمل وأوسع مما سبق ذكره عن نظيرتها العقدية حيث يكون قابلا للتعويض عن الضرر الناتج عن العمل غير المشروعكل خطأ تقصيري سواء سبب ضررا ماديا وأو معنويا.
رابعا: من حيث دعوى المسؤوليتين العقدية والتقصيرية :
إذا كانت كل من أحكام المسؤليتين العقدية والتقصيرية يختلفان من حيث المصادر التي تقوم عليها قانونيا، وكذى من ناحية الأحكام المنظمة للضرر الموجب للتعويض، فإنه أيضا لا محالة سيكون هنالك إختلاف للرؤى ووجهات النظر، لكل منهما من خلال زاوية أخرى لا تقل أهمية، وخاصة على مستوى دعوى إثارة قيام المسؤولية في التعويض كالتزام قانوني يقع على الدائن إلتزام تنفيده متى ثبتت مسؤوليته المدنية عن الخطإ الذي إقترفه.
ولعل الإختلاف من هذه الزاوية يكمن في الإجراءات المسطرية التي يكون الغرض منها عامة هو إثارة المسؤولية في التعويض.
إن الدائن في الإلتزام بإعطاء شيء، أو القيام بعمل يلزمه بالضرورة قبل رفع دعوى إثارة المسؤولية بالأولوية أن يوجه إنذارا أو إعذارا موجها إلى المدين قبل رفع الدعوى بسبب المسؤولية العقدية، والتي لا تقوم إلا إذا اتمنع المدين عن تنفيد إلتزامه بعد إنذاره (11)، حيث إن المدين يصبح في حالة مطل بمجرد حلول الأجل المقرر في السند القانوني المنشئ للإلتزام، أو بعد التوصل بالإنذار في الإلتزامات الغير محددة الأجل كما جاء مضمنا في الفصل 255 من ق.ل.ع
أما بخصوص المسؤولية التقصيرية فلا إنذار، ولا إخطار، قبل رفع دعوى التعويض من لدن المضرور، نظرا لكون أن أطراف الدعوى يعتبرون في حكم الغير قبل وقوع الفعل الماس بالمصلحة المحمية قانونيا طبقا للأحكام العامة.
هذا من جهة أولى، أما من جهة أخرى تتجسد من خلال زاوية نظر أخرى مهمة وهي آجال التقادم والذي تدخل ضمن أحكام قانون الإلتزامات والعقود، وحيث يمكن القول بأنه لكي تقبل دعوى إثارة المسؤولية المدنية في التعويض، فإنه يجب أن ترفع داخل الأجل القانوني المحدد للتقادم.
فبخصوص المسؤولية التقصيرية التي نظمها المشرع المغربي خلال الفصل 106 من ق.ل.ع، وحيث أنها تتقادم بمرور 5 سنوات تبتدئ من الوقت الذي بلغ فيه إلى المضرور وقوع الضرر، وكذا المسؤول عنه، وفي حالة ما إذا كان المتسبب في الضرر مجهولا فإن أجل التقادم يمتد إلى عشرين (20) سنة، هذا بخلاف ما نص عليه المشرع المصري في المادة 172 من قانونه المدني، والذي حدد أجله في ثلاث (3) سنوات (12) إلا ان هذا المبدأ ترد عليه مجموعة من الإستثناءات أوردها المشرع على سبيل الحصر من خلال المادتين 85مكرر و 3888 من ق.ل.ع
هذا بخلاف دعوى المسؤولية العقدية التي تتقادم بمرور خمس عشرة (15) سنة تبتدئ من تاريخ الإخلال بالإلتزام العقدي، أي من تاريخ حدوث الضرر، ولا يمكن الحديث عن أجل أقصى إلا في بعض الحالات الخاصة(13).
أيضا تختلف أحكام المسؤوليتين في إطار دعوى الحصول على تعويض للضرر من خلال المحكمة المختصة للنظر فيه، إذ لابد للإشارة لكل من الإختصاص النوعي والمكاني، حيث أنه في المسؤولية العقدية يمكن أن يكون الإختصاص إلى المحكمة الإبتدائية أو الإدارية أو التجارية، وذلك بحسب طبيعة العقد ونوعه أو بحسب أطرافه العقدية، هذا بالنسبة للإختصاص النوعي أما فيما يخص الإختصاص المكاني فيعود إلى المجال الترابي التابع للمحكمة التي أبرم داخله العقد، وهذا ما تطرق إليه المشرع المغربي بنوع من التفصيل من خلال الباب الثالث من قانون المسطرة المدنية.
أما فيما يخص المسؤولية التقصيرية فإن الإختصاص النوعي للمحاكم يفرض تحديده بحسب طبيعة العمل الغير مشروع، واختلافاته بين ماهو جنائي أو تجاري أو إجتماعي أو أسري، بينما يعود الإختصاص القضائي من حيث المكان إلى إمكانية خيار المتضرر بين أن يرفع الدعوى أمام المحكمة التي يقيم ضمن نطاقها المسؤول عن الضرر، أو أن يقيمها أمام المحكمة التي وقع في دائرتها الضرر.
إذا كانت هذه مجمل الإختلافات الموجودة بين كل من المسؤوليتين العقدية والتقصيرية والتي أسس عليها أصحاب نظرية الإزدجواجية في الفقه القانوني، فإنه رغم ذلك تبقى هنالك مجموعة من نقط التشابه بيينهما من خلال مجموعة من الزوايا الكثيرة، مما جعل مجموعة من الفقه وإن كان ضئيلا يتبنى نظرية أخرى تؤمن بوحدة كل من المسؤوليتين العقدية والتقصيرية.
إذا كانت هاته أبرز أوجه الإختلاف بين كل من المسؤوليتين العقدجية والتقصيرية، فإلى حد يمكن الفصل بين ذات المسؤوليتين؟
فقط تابعونا ولا تنسوا مشاركة رابط الموضوع مع الطلبة والباحثين كما يمكنكم المساهمة معنا في بناء أوراق بحثية أخرى والإتصال بإدارتنا قصد مساعدتكم لإنجاز أبحاثكم ودراساتكم.
لائحة المراجع المعتمدة:
1- حبيب الخليلي، مسؤولية الممتنع المدنية والجنائية، الطبعة الأولى، ص 7 وما بعدها.
2- عبد القادر العرعاري، مصادر الإلتزامات، الكتاب الثاني، المسؤولية العقدية، الطبعة الثانية 2005، الرباط، مكتبة دار الأمل، ص16
3- سليمان مقرس، الوافي في شرح القانون المدني في الإلتزامات، الجزء الثاني، في الفعل الضار والمسؤولية المدنية، مطبعة السلام، شبرا، 1988، ص 11
4- الفصل 85 من ق.ل.ع المغربي
5- المادة 207 من مدونة الأسرة المغربية)، أما الثانية هي صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية ونفاذ تصرفاته، ويحدد القانون شروط إكتسابها وأسباب نقصانها أو إنعدامها (المادة 207 من مدونة الأسرة المغربية.
6- أنظر المادة 214 من مدونة الأسرة المغربية.
7- أنظر الفصل 85 و 96 من ق.ل.ع المغربي، مرجع سابق.
8- أنظر: عبد الرزاق السنهوري م س، ص 979 وما بعدها.
9- أنظر الحكم الصادر عن المحكمة الإبتدائية بالدار البيضاء بتاريخ 27/6/1979 ساالا.
10- أنظر الفصلين 98 و 77 من قانون الإلتزامات والعقود المغربي وكذلك ما نص عليه ظهير 2 أكتوبر 1984 المنظم لتعويض ضحايا حوادث السير.
11- محمد الشرقاني، المسؤولية المدنية، الطبعة 2011-2012، ص 254.
12- عبد الحكيم فودة، التعويض المدني المسؤولية المدنية التعاقدية والتقصيرية، ص 601.
13- أنظر الفصل 389 من قانون الإلتزامات والعقود المغربي، مرجع سابق.
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقك يهمنا