القائمة الرئيسية

الصفحات

ضحايا حوادث السير وتحديات نظام المسؤولية التقليدية (قراءة على ضوء التشريع المغربي والمقارن)


ضحايا حوادث السير

 وتحديات نظام المسؤولية التقليدية 

(قراءة على ضوء التشريع المغربي والمقارن)

إعداد : هشام السفاف

عضو نادي قضاة المغرب





تأتي هذه السطور تتميما لمقال سالف، تحت عنوان '' تعويض ضحايا حوادث السير بين قصور الحماية التشريعية وضرورة المراجعة التشريعية ''، وتبتغي تسليط الضوء على جانب آخر من جوانب القصور التي يعرفها نظام تعويض المصابين في حوادث السير حسبما ينظمه ظهير 02/10/1984، وإذا كنا قد حاولنا في المقال المذكور لفت الانتباه إلى نقطتين مهمتين، الأولى، تتصل بهزالة الحد الأدنى للأجر المعتمد في حق المتضررين ممن لم يتمكنوا من اثبات دخلهم الحقيقي – وهم الكثرة الغالبة من الضحايا الذين تعرض قضاياهم أمام المحاكم -، والثانية، تتعلق بعدم تناسب التعويض الممنوح، وحجم الأضرار العالقة بهم؛ فإننا في موضوع هذا المقال سنعالج قضية من الأهمية بمكان، وهي  بيان أثر إعمال قواعد المسؤولية في الإسهام في قصور الحماية الواجبة لضحايا حوادث السير.
دعونا نذكر في البداية أن نطاق تطبيق ظهير 02-10-1984 المتعلق بتعويض المصابين في حوادث السير، يهم فقط تغطية الأضرار البدنية التي تسببت فيها للغير عربة برية ذات محرك، خاضعة للتأمين الاجباري (المادة 5 منه)، فهو بذلك له اتصال بالقانون رقم 17.99 المتعلق بمدونة التأمينات، الذي يلزم كل شخص طبيعي أو معنوي يمكن أن تثار مسؤوليته المدنية بسبب الأضرار البدنية أو المادية اللاحقة بالأغيار، والتي تسببت فيها عربة برية ذات محرك - غير مرتبطة بسكة حديدية أو بواسطة مقطوراتها أو شبه مقطوراتها -، أن يغطي هذه المسؤولية بعقد تأمين مبرم مع مقاولة للتأمين وإعادة التأمين (المادة 120 منه).
وبموجب هذا العقد تلتزم شركة التأمين بأداء التعويض المستحق لفائدة المتضرر، فتحل بقوة القانون محل المؤمن له في حدود الضمان المنصوص عليه في العقد، لأداء التعويضات أو الإيرادات الممنوحة للأشخاص المنقولين أو الأغيار أو ذويهم وكذا أداء المصاريف الناجمة عن الحادثة (المادة 129 م. التامينات)، إلا أن هذا الحلول مشروط بقيام مسؤولية المؤمن له حارس العربة المؤمن عليها، وهو إما مكتتب عقد التأمين أو مالك العربة أو كل شخص يتولى، بإذن من المكتتب أو مالك العربة، حراستها أو قيادتها (المادة 129 م. التامينات). 
غير أنه بالرجوع إلى ظهير 1984، فإننا لا نجد أي من مقتضياته تنظم قواعد المسؤولية عن حوادث السير - بالرغم من أنه قانون خاص كان أولى به أن ينظم كافة جوانب المسؤولية وليس الاقتصار فقط على موضوع التعويضات - ذلك أنه إنما نص فقط على ضرورة الاخذ بعين الاعتبار - عند منح التعويض المستحق للمصاب - قسط المسؤولية الذي يتحمله المتسبب في الحادثة أو المسؤول المدني إلى جانب عنصري رأس المال المعتمد كما هو محدد في الجدول المحلق به، ونسبة العجز التي يحددها الطبيب الخبير استنادا إلى مرسوم 14-01-1985 المتعلق بجدول تقدير نسب العجز(المادة 5 منه)، لذلك لم يكن أمام المحاكم بد من الرجوع إلى قواعد المسؤولية التقليدية المنظمة وفق مقتضيات ظهير الالتزامات والعقود، أو تلك المنظمة وفق القانون التجاري في بعض الأحيان، إذا ثبت أن الأمر يتعلق بعقد النقل.
كل هذا جعل المحاكم في بداية الأمر منقسمة على نفسها، فمن آخذ بالرأي القائل بإخضاع حوادث السير لقاعدة الخطأ واجب الاثبات من قبل المتضرر، ومن آخذ بقاعدة الخطأ المفترض في جانب الحارس، ثم اختلافهم في حالات وشروط اعتبار عقد النقل مع ما يترتب عن ذلك من اختلاف أسس كل مسؤولية وشروط إقامتها، الى ان استقرت أخيرا على تبني قواعد المسؤولية عن حراسة الأشياء في ميدان حوادث السير ما عدا إذا تعلق الامر بعقد النقل، فإنها تطبق قواعد مسؤولية الناقل البري، مع اعمال قسط المسؤولية الذي يتحمله المتسبب في الضرر، هذا وإننا سنقتصر في عملنا هذا على دراسة المسؤولية عن حراسة الأشياء، باعتبارها من جهة، الشريعة العامة في هذا المجال، وكذلك لكون أغلب القضايا المعروضة على المحاكم تندرج تحتها، ومن جهة أخرى، فإن مناقشتها - في سياق موضوعنا - يغنينا عن التطرق إلى مسؤولية الناقل، طالما أنها تشمل هذه الأخيرة ضمنا وزيادة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن لب الموضوع الذي سيحاول هذا المقال معالجته، يكمن في بحث مدى كفاية قواعد المسؤولية التقليدية، وإسهامها في تحقيق الحماية الكاملة لمصالح المتضرر؟ (المحور الأول).
ثم إذا كانت تعتريها نقائص وعيوب تجعلها قاصرة عن تحقيق الحماية الكافية للضحايا، فما هو النظام البديل الذي من شأنه تلافي ثغراتها، استرشادا ببعض التجارب الدولية الرائدة؟ (المحور الثاني).



المحور الأول : نطاق الحماية التي يوفرها نظام المسؤولية التقليدية للمتضررين من حوادث السير
لقد ذكرنا تمهيدا للموضوع، أن ظهير 1984 لم ينص على قواعد خاصة بالمسؤولية عن حوادث السير، فكان لا بد من الرجوع إلى قواعد المسؤولية التقليدية التي نظمها قانون الالتزامات والعقود، وفي هذا الصدد، فإن هذا الأخير نظم أنواعا من المسؤولية وجعل لكل منها خصوصيات تنفرد بها وتميزها عن غيرها، إلا أن الرابط بينها جميعا أنها تهتم بالمسؤول عن الضرر، وتركز على درجة الخطأ، فهي بداية تحاول ما أكن أن تحميه من تحمل أي مسؤولية، بالنظر لكونها تلزم المتضرر بإثبات عناصرها، إما كلا أو بعضا. وإذا كان لا بد من تحمله إياها، فإنه لا يتحملها إلا بقدر جسامة خطأه، ولو على حسب جسامة الضرر الذي لحق المتضرر، وهو ما يترتب عنه في كثير من الأحيان تعويض لا يرقى إلى درجة جبر كامل الضرر، خلافا للقاعدة العامة التي تتطلب تناسب التعويض مع حجم الضرر المعوض عنه.
وما يهمنا نحن هو نظام المسؤولية عن حراسة الأشياء الذي ينطبق على المركبات في حالتنا نحن، هذا النظام يقوم كغيره من أنظمة المسؤولية على أساس الفعل الضار أو العمل غير المشروع، غير أنه يستند إلى فكرة الخطأ المفترض في حق حارس العربة (الشيء)، فطالما أنه هو صاحب السلطة عليها والمتمثلة في الرقابة والتوجيه والاستعمال؛ فإن تسببها في أي ضرر للغير، يكيف على أنه خطأ تقصيري منه في بذل العناية اللازمة التي تتطلبها حراستها.
وفي هذا السياق نص الفصل 88 من ق.ا.ع. على أن '' كل شخص يسأل عن الضرر الحاصل من الأشياء التي في حراسته، إذا تبين أن هذه الأشياء هي السبب المباشر للضرر، وذلك ما لم يثبت :
-       أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر،
-       وأن الضرر يرجع إما لحادث فجائي، أو لقوة قاهرة، أو لخطأ المتضرر ''.
ولا شك أن الناظر للوهلة الأولى، سيجد أن اعمال مقتضيات هذا الفصل فيها حماية كبيرة للطرف المتضرر - وهو حق لا ريب فيه -، ذلك أنه يكفيه هنا أن يثبت تعرضه للضرر، والعلاقة السببية التي تربط تدخل العربة (الشيء) في حصوله له، ومن ثم ينقلب على حارس العربة عبء اثبات اعفائه من المسؤولية، وهو أمر لا يستقيم له بمجرد نفي الخطأ في حقه، وفي هذا السياق ذهب المجلس الأعلى (سابقا) إلى أن مسؤولية الحارس '' لا تنتفي لمجرد عدم ارتكاب أي خطأ من جانبه يبرر إدانته جنائيا ''[[1]]، ذلك '' أن الحكم بالبراءة يثبت فقط، انعدام الخطأ ''[[2]]، في حين أنه '' لا يكفي أن يطلب من الحارس عدم ارتكاب خطأ، بل المطلوب منه القيام بعمل إيجابي أو اتخاذ احتياطات خاصة تفرضها الظروف لتجنب الحادث ''[[3]].
والسبب في ذلك، أن الخطأ هنا مفترض افتراضا لا يقبل العكس، ولابد له آنذاك من نفي العلاقة السببية، وهو الأمر الذي يعسر عليه، نظرا لتطلبه امرين متلازمين، لا يكفيه اثبات أحدهما دون الآخر، فيجب عليه أولا، أن يثبت أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر، ومعنى ذلك أن يقوم بفعل إيجابي يروم تلافي وقوع الحادث، وليس أن يبقى مكتوف اليدين دون تحريك ساكن، وأن يتمسك بأنه لم يرتكب خطأ، وثانيا: أن يثبت أن الضرر راجع لسبب أجنبي عنه، إما لحادث فجائي أو لقوة قاهرة، أو لخطأ المتضرر.
وهذا على خلاف تطبيق مقتضيات الفصل 78 من ق.ا.ع. - وهو الشريعة العامة للمسؤولية المدنية التقصيرية – الذي يتأسس على الخطأ الواجب الاثبات، ويوجب على المتضرر اثبات العناصر الثلاثة لقيام المسؤولية المدنية عن الفعل الشخصي، وهي الضرر اللاحق به، وخطأ الشخص المسؤول عنه، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، وهو ما يتعذر في أغلب الأحيان، لعدم إمكانية اثبات كامل ظروف وملابسات حوادث السير، والأفعال المرتكبة من قبل كل واحد من أطرافها حتى يقع استخلاص المسؤوليات وترتيب الجزاءات عليها.
غير أن النظرة الأولى لا تكون صادقة في بعض الأحيان، ذلك أنه بإمعان تركيبة الفصل 88 أعلاه سنجده:
من جهة أولى، وإن تشدد في مسألة اعفاء الحارس من المسؤولية، وربطها بشرطين متلازمين؛ فإنه على أي حال ترك للحارس، وبالتبعية لشركات التأمين، مجالا للتملص من تحمل تبعات الأضرار التي أصابت الضحايا، وما الواقع العملي إلا خير شاهد على ذلك.
وفي هذا الإطار ذهب الاجتهاد القضائي، في كثير من النوازل إلى اعفاء الحارس من المسؤولية لإثباته القرينة المزدوجة من الشرطين المذكورين ، ومنها :
- قرار المجلس الأعلى (سابقا) عدد 256 [[4]]، وفيه أن حارس السيارة الذي أثبت '' أنه كان يستحيل عليه القيام بأية محاولة لتفادي الحادث، وأن خطأ خصمه كان غير متوقع، ولا يمكن تجنبه، فإن ذلك كاف للقول بأنه فعل ما كان في استطاعته لتجنب الضرر، وأن الشرطين اللذين يشترطهما الفصل 88 متوفران لدرء المسؤولية المرتكزة على أساسه ''.
- قرار المجلس الأعلى (سابقا) عدد 3857 [[5]]، وفيه أن '' المحكمة لما أعفت الحارس القانوني من المسؤولية حين تبين لها أن الضحية خرق علامة قف، وأن حارس السيارة تلافى الحادثة بانحيازه يسارا واستعماله الفرامل، وأعفته لكون خطأ المضرور كان مستغرقا تكون قد اعتمدت الشرطين المنصوص عليهما في الفصل 88 من ق.ا.ع ''.
- قرار المجلس الأعلى (سابقا) عدد 1358 [[6]]، وفيه أن '' القرار المطعون فيه صادف الصواب حين اعتبر ان السائق كان يسير بسرعة معتدلة، ملتزما أقصى اليمين، وفعل ما كان ضروريا لتفادي وقوع الاصطدام، وحاول التوقف قبل وقوع الحادثة، إلا أن سرعة الضحية في اتجاه ممنوع، وعلى يسار الطريق، جعله يفقد التحكم في مقود دراجته ويرتطم بالسيارة وترتب على ذلك عدم تحميل السائق أي جزء من المسؤولية ''.
- قرار محكمة النقض عدد 268 [[7]]، وفيه أنه '' يحظر على الراجلين دخول الطريق السيار، وأن المرور بها يقتصر على العربات المجهزة بمحرك آلي، وعلى الأشخاص الوارد حصرهم في المادة 150 من المرسوم المتعلق بتطبيق مدونة السير، والذي لا يندرج ضمنهم الهالك،  وهو ما يتعين معه القور بأن دخوله الطريق السيار ليلا، واقدامه على عبوره خلافا لما يقتضيه القانون يشكل أحد الأسباب المبررة التي تمحو الجريمة عملا بمقتضيات المادة 124 من ق.ج. وتأسيسا على ذلك لما قضت المحكمة المطعون في قرارها ببراءة المتهم، من أجل القتل غير العمدي، تكون بذلك قد طبقت القانون ''. على أنه ينبغي التنبيه على أن هذا القرار لم آت به للتدليل على اعفاء الحارس من المسؤولية المدنية، لكونه انصب على الدعوى العمومية، فهو بذلك أعفى المتهم من المسؤولية الجنائية دون المسؤولية المدنية التي يبقى للمتضرر حق عرض دعواه بخصوصها أمام المحكمة المدنية، التي قد تستجيب لطلبه وقد ترفضه، خاصة إذا استحضرنا الأخطاء التي وقع فيها الضحية حسب هذا القرار، وجواز تمسك الحارس بمضمون القرار الأول الذي سبق الإشارة إليه، وذلك بالتمسك بكونه كان في حالة يستحيل عليه فيها القيام بأي فعل لتفادي الحادثة، نظرا لظروف زمان الحادثة (ليلا)، ومكانها ( طريق سيار)، وسيرها ( جواز السير بسرعة تعادل 120 كم/س).
وبهذا نجد أن حارس العربة مثلا في الحالات المذكورة، وجد لنفسه موطئا للتهرب من مسؤولية الحادثة، إما لكونه كان في وضعية صعبة يستحيل عليه فيها القيام بأي محاولة من اجل تفادي الحاق الضرر بالضحية، أو لأن خطأ هذا الأخير كان من الجسامة بمكان، اذ استغرق كل ما يمكن أن ينسب إلى الحارس من أخطاء، أو لكونه فعلا قام بما في استطاعته لتفادي الحادث غير أن خطأ الضحية كان هو سبب الضرر اللاحق به، او غير ذلك من الأسباب، وبالتالي، فإن مقاولة التأمن تجد لها بالتبعية منفذا للتملص من أداء التعويضات للمصابين، الذين لا يبقى لهم بد من مجابهة مخاطر الأضرار بمفردهم، وتبقى معاناتهم الصامتة تنتظر من يتكرم ويرفعها عنهم أو على الأقل أن يخفف وطأها على قلوبهم وجيوبهم.
ومن جهة ثانية، فإن قيام مسؤولية حارس العربة تقتضي تدخل العربة في إحداث الضرر، ويستلزم ذلك أن تلعب العربة دورا إيجابيا في وقوعه، بمعنى أن يكون تدخلها هو السبب المؤثر في وقوع الحادثة، وليس مجرد عامل مساهم، وهو ما يضيق نطاق العلاقة السببية في مجال المسؤولية عن حوادث السير، وهذا ما تبناه الاجتهاد القضائي في عدد من قراراته، منها:
- القرار عدد 545 [[8]]، وفيه أن '' مناط مسؤولية الحارس القانوني للشيء هو الضرر الذي يصيب الغير بفعل هذا الشيء، والضرر يعتبر ناشئا عنه اذا تدخل الشيء تدخلا إيجابيا في حدوثه، أما إذا كان دور الشيء سلبيا دون أثر فاعل في حصول النتيجة الضارة، فإن الحارس لا يتحمل أي تبعية ''.
- القرار 2364 [[9]] وفيه أن '' حارس الشيء هو المسؤول عن الضرر الذي يحدثه للغير إذا تدخل الشيء تدخلا إيجابيا، فكان هو السبب المباشر في احداث الضرر ''.
ولا شك أن اعمال هذا الشرط يفتح بابا آخر أمام الحارس للإعفاء من مسؤوليته، وبالتالي تحلل مؤمنته من ضمان الأضرار التي أصابت الضحية.
ومن جهة ثالثة، فإنه لما كان نظام المسؤولية التقليدية يرتكز على فكرة الخطأ، ومدى مساهمته في احداث الضرر، وبالتالي إعفاء الحارس كليا أو جزئيا من مسؤولية تعويضه، بما يوازي القدر الذي لم ينتج مباشرة عن الأثر الفاعل لخطأه في إحداثه، فإن ذلك من شأنه أن ينعكس بالضرورة سلبا على حق الضحية من جراء حادثة سير في التعويض الكامل.
وهكذا نجد الفصل 88 من ق.ا.ع أجاز اعفاء الحارس بقدر تدخل السبب الأجنبي في إحداث الضرر من قبيل القوة القاهرة أو الحدث الفجائي أو فعل المتضرر.
وفي نفس السياق أيضا، فإن المادة 5 من ظهير 1984 التي حددت أسس منح تعويضات ضحايا حوادث السير، أكدت على ضرورة مراعاة قسط المسؤولية الذي يتحمله المتسبب في الحادثة أو المسؤول المدني عنها.
وإذا ما استحضرنا أن أخطاء المضرور في حوادث السير أصبحت عادية وطبيعية، نظرا لتعقيد منظومة السير والجولان وازدحامها، وكثرة العربات وسرعتها، وازدياد مستعملي الطريق وعدم انتباههم، فإنه بات من العسير جدا الانفكاك عن الأخطاء في كثير من الأحيان، وهو ما يجعل الضحية معرضا لسيف توزيع المسؤولية أو تحملها.

وبهذا يتبين أن المصاب إما أن يحرم من التعويض كليا، كما في الحالتين الأوليتين، أو أن يحرم منه جزئيا كما في الحالة الثالثة، فإذا أضفنا إلى إشكالية المسؤولية، كثرة الاستثناءات من الضمان، وكذا حصر دائرة المستفيدين من التعويض، واستلزام بعض الشروط الدقيقة في كل ضرر على حدة، والتي تتطلب من المضرور استيفاءها تحت طائلة حرمانه من التعويض عنه، وهزالة الحد الأدنى للأجر؛ فإن هذا الأخير يصبح معرضا للضرر مرتين، الأولى، لما تعرض للحادثة وما نتج عنها من أضرار بدنية ومعنوية ومادية، والثانية، حينما يطاله إجحاف القانون بعدم تعويضه مطلقا، أو تعويضه تعويضا غير منصف ولا عادل، ودون أن يتناسب مع حجم الأضرار التي لحقته وجسامتها، وما يمكن أن تسببه الحادثة من أثر سيء على أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
وهذا ما حيلنا على النظام البديل الذي من شأنه أن يحد من آثار اعمال القواعد التقليدية للمسؤولية.



المحور الثاني : نظام المسؤولية الموضوعية، بديلا لنقائص نظام المسؤولية التقليدية.
لقد تعرض نظام المسؤولية المدنية في إطارها التقليدي، لانتقادات شديدة، لذلك حاول القائمون عليها تعديلها وإصلاحها، إلا أن فكرة الخطأ كانت ولا زالت قطب الرحى فيها، رغم محاولة تلطيفها وتهذيبها من الارتكاز على الخطأ الواجب الاثبات، إلى افتراض وجود الخطأ افتراضا قابلا لإثبات العكس، ثم إلى افتراضه بصورة غير قابلة لإثبات العكس.
غير أن كل هذه المحاولات لم تقدر على حماية المضرور بالصورة المرجوة، خاصة عندما يكون سبب الضرر الذي لحقه، هو استعمال الآلات والوسائل الحديثة، ما قد يجعله عرضة للحرمان كليا او جزئيا من التعويض لسبب خارجي لا يد له فيه، أو لمجرد خطأ عادي من جانبه بالنظر إلى ظروف وملابسات استعمال الوسائل المذكورة.
ذلك أن الازدهار العلمي المتعاقب، والتطور التكنولوجي السريع الذين شهدتهما الحياة المعاصرة، أديا إلى غزو شامل للآلات والمخترعات العلمية لمختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فتزايدت بصورة مهولة مخاطر العمل والعيش، حتى أصبح الخطأ منتظر الحدوث في أي وقت، ومتوقع التحقق في كل حين، وهو ما جعل استعمال الوسائل الحديثة مرادفا للضرر، في حين أن إثبات الخطأ وعزوه إلى مصدره المتسبب في الضرر، أضحى أكثر عسرا ومشقة على المتضرر الذي لا يبتغي إلا حصوله على تعويض ملائم من جانب المسؤول عن الضرر، حتى إنه في بعض الأحوال يكون اثبات الخطأ أقرب إلى المحال منه إلى الممكن، ويبقى الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو المتضرر، الذي أصبح الحلقة الأضعف فيها.
نتيجة لذلك، صار ركن الضرر هو البارز في المسؤولية المدنية، بينما انحسر ركن الخطأ، حتى كاد يختفي، فوجد الفقه في فكرة تحمل المخاطر أو التبعة - التي تقضي على من يستفيد من مكاسب نشاط ما ومغانمه، أن يتحمل مسؤولية تبعاته ومغارمه، عملا بمبدأ الغنم بالغرم – حلا واقعيا لتلافي ما عجزت عنه فكرة الخطأ من تحقيق الأمن للمضرور ورعاية لمصالحه، فبرزت إلى الوجود المسؤولية المدنية المرتكزة على النظرة الموضوعية القائمة على أساس تحمل المخاطر، بمجرد حصول الضرر، وذلك في مقابل المسؤولية المدنية المرتكزة على النظرة الشخصية القائمة على أساس فكرة الخطأ.
بالتالي، فإن نظام المسؤولية الموضوعية، وخلافا لنظام المسؤولية التقليدية، إنما يهتم بالضحية المتضرر، ويركز على درجة جسامة الضرر، وغايته بالأساس رعاية مصلحة الضحية، وحماية حقه في التعويض الكامل بما يجبر الضرر اللاحق به.
والمشرع المغربي كما سبقت الإشارة إليه ربط استحقاق التعويض عن حوادث السير، بإعمال قسط المسؤولية الذي يتحمله المتسبب في الحادثة أو المسؤول المدني، كما لم يفصل في طبيعة المسؤولية الواجب اعتمادها ولا شروط تحققها، حيث أحالها ضمنا على القواعد العامة على علاتها المبسوطة أعلاه، وبذلك، فقد بقي قاصرا عن تحقيق الحماية الكافية للضحايا، ومتخلفا جدا عن ركب التشريعات المقارنة في هذا المجال، والتي سنعرض لبعض تجاربها بهذا الخصوص على النحو الآتي :

أولا : المشرع الفرنسي .
إن المشرع الفرنسي على سبيل المثال سن القانون رقم 677-85 المؤرخ 5 / 7 / 1985 المتعلق بتحسين وضعية ضحايا حوادث السير، وتسريع إجراءات التعويض عنها، وهجر فيه - بصورة عامة - قواعد المسؤولية المدنية التقليدية، حيث لم يعد في إمكان المسؤول عن الحادثة التملص من تبعاتها واعفاؤه من مسؤوليته عنها، بعلة وجود قوة قاهرة أو نتيجة لفعل الغير ( المادة 2 من القانون المذكور)، بالتالي، فقد بات الضحية في منأى عن مواجهته بالسبب الأجنبي.
كما أن خطأ هذا الأخير لم يعد له أي تأثير على استحقاقه التعويض عن الأضرار البدنية اللاحقة به، إلا إذا كان خطأ غير مغتفر، وكان هو السبب الوحيد في وقوع الحادث (المادة 3 منه الفقرة 1)، على أنه إذا كان عمره يقل عن 16 سنة أو أكثر من 70  سنة، أو حتى كيفما كان عمره ، إذا كان وقت وقوع الحادثة، حاملا لعجز دائم أو عجز لا يقل عن 80٪،  فإنه يعوض عن الأضرار البدنية التي لحقت به على أي حال، وبعض النظر عن جسامة خطأه (المادة 3 منه الفقرة 2)، ما عدا في حالة وحيدة لا يمكن أن يستحق فيها أي تعويض، وهي الحالة التي يتعمد فيها إحداث الضرر بنفسه (المادة 3 منه الفقرة 3).
ولم يعد يعتد بالخطأ، إلا بالنسبة إلى الضحية، سائق العربة البرية، حيث إن الخطأ المرتكب من طرفه يمكن أن يؤدي إلى التخفيض من قدر التعويض عن الضرر الذي لحق به، أو حتى الحرمان منه بحسب نسبة مساهمته في وقوع الحادث (المادة 4 منه )، وهو ما يسري كذلك على الضحية - غير السائق - عندما يتعلق الأمر بالخسائر المادية التي تعرضت لها ممتلكاته، غير أنه، يتم تعويض اللوازم والأجهزة الطبية والوصفات الطبية وفقًا للقواعد السارية على التعويض عن الإصابة البدنية (المادة 5 منه ).
وبمطالعتنا لبعض التشريعات العربية المقارنة، نجد التشريعين الجزائري والتونسي، خولا أيضا التعويض لكل ضحايا حادثة سير، ولم يعتدا – بصفة عامة - بالأخطاء المرتكبة من قبلهم ولا بتدخل السبب الأجنبي، وبالتالي، لم يجعلا على أعتاقهم، قسط المسؤولية المترتب عن ذلك، إلا فيما بين السائقين المتسببين في الحادثة فقط، وذلك بحسب نسبة مساهمة كل واحد مهم في وقوع الحادثة، دون أن يواجه بها الأغيار المتضررين، بل وحتى السائق وذويه يستحقون التعويض (ما عدا في حدود ضيقة جدا ).

ثانيا: المشرع الجزائري .
فالمشرع الجزائري من خلال الأمر 15/74 الصادر بتاريخ 30-01-1974 المتعلق بإلزامية التأمين على السيارات وبنظام التعويض عن الأضرار المادية والجسمانية وأساسه - وهو بالمناسبة من التشريعات الدولية السباقة إلى تبني نظرية المسؤولية الموضوعية، حتى إنه سبق المشرع الفرنسي في هذا المجال -، خول لكل ضحية حادثة سير الحق في التعويض بغض النظر عن صفته أو الأخطاء المرتكبة من قبله، وفي هذا الصدد نصت المادة 8 منه على أن كل حادث سير سبب أضرارا جسمانية يترتب عليه التعويض لكل ضحية أو ذوي حقوقها وإن لم تكن للضحية صفة الغير تجاه الشخص المسؤول مدنيا عن الحادث، ويشمل هذا التعويض كذلك المكتتب في التأمين، ومالك المركبة، كما يمكن أن يشمل سائق المركبة ومسبب الحادث.
على أن المادة 13 منه قيدت حق السائق في التعويض الكامل، وذلك بمراعاة الأخطاء الصادرة عنه، حيث إن التعويض المستحق له يخفض بحسب نسبة مسؤوليته عن الحادثة، إلا إذا كانت نسبة العجز الدائم اللاحق به مساوية أو تفوق 50%، ففي هذه الحالة يستحق الضحية السائق التعويض كاملا، ولا يكون محل أي تخفيض، أي أنه يعتبر حينئذ كالضحية غير السائق.
غير أنه في حالة ارتكاب السائق لبعض الأخطاء الجسيمة؛ فإنه يحرم من التعويض جملة، وهي التي نصت عليها المادة 14 منه، والمتمثلة في السياقة في حالة السكر أو تحت تأثير الكحول أو المخدرات أو الممنوعات المحظورة، حيث لا يحق له شخصيا المطالبة بأي تعويض، مع مراعاة أن هذا الاستثناء لا يسري على ذوي حقوقه في حالة وفاته.
كما يلحق بالسائق المذكور سارق العربة وشركاؤه حيث لا يستحقون التعويض بتاتا، وإن كان هذا الحرمان لا يسري على ذوي حقوقهم في حالة الوفاة، وكذلك على الأشخاص المنقولين على العربة أو ذوي حقوقهم (المادة 15).
ثالثا: المشرع التونسي .
أما المشرع التونسي، فمن خلال القانون 86/2005 الصادر بتاريخ 05-08-2005 المتعلق بإدراج عنوان خامس بمجلة التأمين، يخص تأمين المسؤولية المدنية الناتجة عن استعمال العربات البرية ذات محرك، ونظام التعويض عن الأضرار اللاحقة بالأشخاص في حوادث المرور، فقد منح بدوره – على غرار التشريعين المشار إليهما أعلاه - لكل متضرر الحق في التعويض دون إمكانية مواجهته بالأخطاء غير العمدية الصادرة عنه (الفصل 122)، ولا حتى بالسبب الأجنبي المتمثل في القوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو خطأ الغير – بما في ذلك سائق أو حارس العربة -  (الفصل 124)، وعلى هذا فقد نص الفصل 122 منه على أنه يقع تعويض متضرري حوادث المرور عن الأضرار اللاحقة بالأشخاص ومخلفاتها دون إمكانية معارضتهم بخطأ في جانبهم، باستثناء الحالة التي يتعمدون فيها إلحاق الضرر بأنفسهم أو الخطأ الفادح الذي لا يمكن تبريره.

هذا ولم يستثن المشرع التونسي إلا سائق العربة، وكذا ذوي حقوقه في حال وفاته، حيث ربط الفصل 123 منه، حقهم في التعويض عن الأضرار اللاحقة بهم بدرجة الأخطاء المرتكبة من قبل السائق، ونسبة إسهامها في وقوع الحادث، وذلك بجعل التعويض المستحق لهم يقدر بحسب نسبة المسؤولية التي يتحملها السائق إن كليا أو جزئيا.

خلاصة وتوصية :
وهكذا كما هو بين؛ فإن فكرة المسؤولية الموضوعية أضحت أرقى ما وصل إليه الفكر الجماعي، والأكثر حماية لمصالح ضحايا حوادث السير، والأصلح لتلافي الخسائر التي تعرفها اقتصاديات الدول، خاصة النامية منها، ذلك أنه بمجرد وقوع الضرر، وبغض النظر عما صدر عن المتضرر من أخطاء ( باستثناء حالات يسيرة جدا يكون فيها الخطأ متعمدا أو على درجة عظيمة من الجسامة لا يمكن إغفالها)، يستحق هذا الأخير تعويضا عادلا يغطي تكاليف علاجه، ويساعده على تجاوز اصابته والأضرار التي لحقته.
لذلك أقول، إن الأوان قد حان لرفع الحيف عن هذه الفئة التي تئن في صمت، خاصة وأن آليات التعويض الجماعية وباقي الظروف التشريعية الموازية والملائمة موجودة منذ زمن بعيد، فالتأمين عن المسؤولية المدنية المترتبة عن الأضرار التي تسببت فيها عربات برية ذات محرك، إجراء إلزامي بمقتضى القانون، هذا فضلا عن أن عمليات التأمين التي تعتبر في جوهرها ضمانا لتبعات الأخطار، أصبحت منتشرة وشاملة مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أن صندوق ضمان حوادث السير في حالة عدم وجود تأمين، محدث منذ عقود طويلة، فلم يبق اذا إلا الإرادة التشريعية الحقيقية للإصلاح.




[1]) الصادر بتاريخ 12 أبريل 1972 ، مجلة القضاء والقانون، العدد 122، ص 49
[2]) الصادر بتاريخ 11 مارس 1970 ، مجموعة قرارات  المجلس الأعلى، المادة المدنية الجزء 1، ص 637
[3]) الصادر بتاريخ 13 ماي 1970 ، مجموعة قرارات  المجلس الأعلى، المادة المدنية الجزء 1، ص 645
[4]) الصادر بتاريخ 04 يونيو 1969 ، مجموعة قرارات  المجلس الأعلى، المادة المدنية، الجزء 1، ص 620 .
[5]) الصادر بتاريخ 12  نونبر 2008 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 70، ص 106 .
[6]) الصادر بتاريخ 09  أبريل 2008 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 70، ص 103 .
[7]) الصادر بتاريخ 24 فبراير 2016 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 70، ص 106 .
[8]) الصادر بتاريخ 08 فبراير 2011 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 73، ص 98 .
[9]) الصادر بتاريخ 18 يونيو 2008 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى ، العدد 71، ص 102 .

تعليقات