القائمة الرئيسية

الصفحات

مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره



ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره

للإلمام بمدلول مبدأ الشرعية الجنائية، يتعين البحث في الظروف التاريخية التي مهدت لظهوره، ومكنته من احتلال المكانة والقيمة الدستورية والقانونية التي يحتلها اليوم، وكذا البحث في الأسس والمبادئ الفلسفية التي قام عليها. حتى يتسنى لنا بعد ذلك استيعاب ماهيته وما يرتبه من نتائج، لذلك سنتناول هذا المبحث من خلال مطلبين، نخصص الأول لظهور المبدأ وتطوره التاريخي، لنخصص الثاني لماهية المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه. 

المطلب الأول : ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره التاريخي

مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر بظهور قانون العقوبات، كما أنه لم يتطور بذات الطريقة، كونه ظهر في مرحلة متأخرة من مراحل تطور هذا القانون، وهي المراحل المتعددة التي تضرب بجذورها في أغوار تاريخ البشرية، وهو الأمر الذي جعلت هذا القانون يعاني من ويلات التعسف والتحكم والاستبداد لفترة زمنية طويلة، غير أن الأمر إن كان كذلك بخصوص التشريعات الوضعية الأوروبية فالأمر مختلف بخصوص الشريعة الإسلامية التي عرفت المبدأ منذ القرن السادس ميلادي. لذا سنحاول أن نتناول ظهور المبدأ في فرع، لنتناول في الثاني تطوره التاريخي، ونخصص الثالث لتبيان أسسه الفلسفية.

الفرع الأول : ظهور مبدأ الشرعية الجنائية

يرجع البعض – وهو كثيرون- تاريخ المبدأ وأول ظهور له إلى فلاسفة عصر التنوير والنهضة في أوربا، في القرن الثامن عشر، غير أن الحقيقة هو أنه مبدأ ظهر قبل ذلك بكثير، حيث عرفته الشريعة الإسلامية في الوقت الذي كانت فيه أمم أوروبا غارقة في الظلام وتعاني من تحكم وتعسف السلطات، وحتى وإن عرفته بعض التشريعات الغابرة ما قبل الميلاد، مثل شريعة حمورابي، إلا أنه سوى بلورة لقيم السلطة آنذاك[25]. وفي الشريعة الإسلامية قد دلت على المبدأ العديد من الآيات القرآنية الكريمة، مثل قوله عز وجل في الآية 15 من ســورة الإسراء :" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وقوله عز وجل في الآية 59 من سورة القصص :" وما كان لربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا"، وقوله أيضا في الآية 165 من سورة النساء: " لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل"، وقوله عزل وجل في الآية 38 من سورة الأنفال :" قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وفي الآية 95 من سورة المائدة :" عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه". وأما في أوروبا، سادت فترة طويلة من الزمن كانت فيها إرادة الحاكم وأهوائه هي القانون وذلك في ظل نظام مستبد، فلم يوجد آنذاك مبدأ يعبر عن سيادة القانون، مما أثر الفلاسفة والمفكرين على السلطة القضائية، التي كانت تحاكم وتجرم بناء على رسائل الملوك والحكام وفي غياب أية نصوص قانونية، مما وسع من دائرة التجريم وهز ميزان العدالة تحت وطأة التعسف والجور والطغيان، وجسامة وشدة العقوبات ووحشية تنفيذها، مما كان له أثر بالغ في ثورة ما يسمى " بثورة الحريات الكبرى" التي ثارت ضد هذا الجور والطغيان فأشعلت كتاباتهم الثورة الفرنسية سنة 1789 . غير كان قد سبقهم في ذلك "مونتسكيو" الذي يعد أول ما ندد بالظلم والطغيان في كتابه الخالد " روح القوانين" حيث نادى بمبدأ الفصل بين السلطات لوضع حد لاعتداء السلطة القضائية على اختصاصات السلطة التشريعية، التي كانت تقرر الجرائم والعقوبات وفقا لأهوائها، وأكد على ضرورة " الشرعية النصية" لأجل وضع سياج منيع على الحقوق والحريات. ومن بعده بيكاريا في كتابه " الجرائم والعقوبات"، المنشور سنة 1764 مستندا على فلسفة روسو التي قررها بكتابه العقد الاجتماعي، كما لخص كل من أفكار مونتسكيو وجون جاك روسو وأبرز في كتابه قيمة مبدأ الشرعية باعتباره الوسيلة الفعالة لتخليص القانون الجنائي من تحكم القضاة وتعسف الحكام، ورأى بأن السبيل لتخليص الأفراد من طغيان القضاة وتعسفهم في مجال التجريم والعقاب هو القانون، حيث لا يؤاخذ الشخص إلا عن جريمة يكون قد حددها النص مسبقا وبين عقوبتها ومقدارها، كما اشتق بيكاريا من نظرية العقد الاجتماعي أيضا " مبدأ المصلحة الاجتماعية أساس لمشروعية العقاب" وبذلك: تجرم الأفعال التي تعد عدوانا على المجتمع فقط، وأن يكون الجزاء متناسبا مع الضرر. وبالتالي يكون مبدأ الشرعية الجنائية أول من نادى به مونتسكيو ومن بعده روسو وبيكاريا، واهم عامل دفع لذلك كان التعسف والاستبداد الذي كان سائدا في أوروبا في هذه الحقبة الزمنية.

الفرع الثاني : التطور التاريخي لمبدأ الشرعية الجنائية

المبادئ التي نادى به كل مونسكيو وروسو وبيكاريا كانت سببا في ظهور مبدأ الشرعية الجنائية إلى الوجود، بصيغته الأولى، لذا امتد في التطور المتسع والمتسارع وعرف طريقه إلى مجتمعات وحضارات أخرى، وكانت أهمها وثائق الثورة الفرنسية، لكن وقبل ذلك كان المحامي العام السيد سيفران في خطابه أمام البرلمان سنة 1766 في قرونوبل قد قدم خطابا أهم ما جاء فيه :" أن القوانين أو القواعد الجنائية يجب أن تعطي للقاضي لوحة مدققة عن الجرائم والجزاءات، بحيث يتعين على القاضي فقط اختيار الجزاء المحدد" وتأكد المبدأ بعد ذلك في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدر في أعقاب الثورة الفرنسية في المادة 5 منه التي نصت على انه :" لا يمنع الفرد عن إتيان ما هو غير محظور بنص القانون"، وقضت المادة 8 منه بأنه :" لا يعاقب الشخص إلا طبقا لقانون محدد وصادر قبل ارتكاب الفعل، ثم أكده بعد ذلك دستور الثورة الفرنسية لسنة 1791 وبعده دستور 1793 ودخل المبدأ منذ ذلك الوقت المجال التشريعي[26]. وأخذ القانون الإنجليزي بمبدأ الشرعية الجنائية منذ صدور ميثاق هنري الأول، ثم تضمنه دستور كلاريندون وأكده بعد ذلك العهد الأعظم الذي قرر سمو قواعد القانون في إنجلترا والذي أصدره الملك جون سنة 1215، حيث نصت المادة 29 منه على أنه: " لا يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان حر إلا بمحاكمة قانونية من أنداده طبقا لقانون البلاد"، وأكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المواد 9، 10 و11، كما تضمنه أكثر من 50 اتفاقية أو إعلان يتعلق بحقوق الإنسان والحريات الفردية، ليستقر بعدها في غالبية الدساتير والقوانين الجزائية، بوصفه ضمانة أساسية للحقوق والحريات، وصار ركيزة دستورية هامة، وقد نصت عليه غالبية الدساتير الجزائرية، ففي دستور 1976 تضمنته المادتان 45 و169 ، والمواد 43، 44، 131، 133 من دستور 1989، والمادة 46 من دستور 96 المعدل والمتمم، كما نصت عليه المادة الأولى من قانون العقوبات الجزائري، من كون لا جريمة ولا عقوبة ولا تدابير أمن بغير قانون، وقضت المادتان 2 و3 على مبدأين من يعدان نتيجتين من نتائجه وهما مبدأ عدم الرجعية ومبدأ الإقليمية. ونص المشرع الفرنسي على المبدأ في نص المادة 111-3 بأنه :" لا يعاقب أحد على جناية أو جنحة ما لم تكن أركانها معرفة بقانون، كما لا يعاقب شخص على مخالفة ما لم تكن أركانها محددة بمقتضى اللائحة"، ورأى جانب من الفقه الفرنسي أن المكان الطبيعي للنص على مبدأ الشرعية الجنائية هو الدستور، وأن النص عليه في التقنين العقابي ما هو إلا من التزيد الذي لا مبرر له، ولا لزوم له، بل وتأباه فنون الصياغة القانونية والبلاغة التشريعية، كونه مبدأ يحرص على حماية الحريات الفردية، وان مكان النص على هذه الحريات هو الدستور لذا يجب رفع مبدأ الشرعية الجنائية إلى مصاف المبادئ الدستورية، وأن إيراد المبدأ في الدستور يغني عن ترديده في قانون العقوبات. وقبل أن نتقل من فكرة الظهور والتطور، نشير بان هذا التطور مكن من استنتاج الأسس الفلسفية لهذا المبدأ الدستوري الجنائي الهام، وهي الأسس التي نتناولها في الفرع الثالث التالي.

الفرع الثالث : مفهوم الشرعية الجنائية

لمبدأ الشرعية الجنائية معنى ومدلول وعناصر، وأقسام سنحاول أن نتبينها باختصار في النقاط التالية، حيث نبين المقصود منه، وعناصره، وذلك بالقدر الذي نحتاجه لباقي نقاط دراستنا فقط.

الفرع الأول : المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية

الأصل أن يقصد بمبدأ الشرعية الركن الشرعي للجريمة – وهو ما نحن بصدد دراسته- كما انه يفهم منها مبدأ المشروعية، لذا وجب علينا أن نفرق بين الشرعية والمشروعية في نقطة، لنتناول في الثانية تعريف مبدأ الشريعة الجنائية. إذ في الكثير من الأحيان يستخدم المصطلحين للدلالة على نفس المعنى، غير أنه هناك اختلافات بين المصطلحين، حيث أن الشرعية تعني تنصرف في المجال الجنائي إلى معاني قانونية، تتمثل في حصر مصادر التجريم والعقاب في نصوص قانونية محددة، وهي بذلك تتعلق بالنص الجنائي وبالعناصر الشكلية والموضوعية التي تضمن شروط صحة النص. كما يقصد بالشرعية تلك المبادئ التي تكفل احترام حقوق الإنسان وإقامة التوازن بينها وبين المصلحة العامة، والتي يتعين على الدولة التقيد بها عند ممارستها لصلاحياته العامة. بينما يقصد بالمشروعيـــــة، انتفاء التعارض بين الواقعة القانونية وبين نصوص التجريم والعقاب، وبالأحرى انتفاء التعارض بين النصوص والمصالح والأموال المشمولة بحماية هذه النصوص، فهي بذلك تنصرف إلى أسباب الإباحة، حيث لا يوصف الفعل بعدم المشروعية إذا توفرت شروط تطبيق سبب من أسباب الإباحة التي بينها القانون، فالمشروعية تتعلق بالفعل، في حين أن الشرعية تتعلق بالنص. ويرى البعض، في هذا المعنى، أن مبدأ الشرعية الجنائية في حقيقة الأمر ما هو إلا جانبا واحدا من مبدأ أكثر شمولا، وواجب التطبيق على أي نشاط تقوم به الدولة، الذي يجسد دولة القانون ويفرقها عن الدولة البوليسية. حيث يتوجب على كل السلطات في الدولة احترام القانون والعمل في إطاره، والالتزام بأحكامه في قيامها بمهامها، وعادة ما يقال الشرعية الإدارية للدلالة على هذا المعنى – عمل سلطات الدولة في نطاق القوانين-، تميزا عن مبدأ شرعية الجرائم والعقاب الحاكم للقانون العقابي. غير أنه وبعيدا عما سبق، سنحاول أن نبين تعريف مبدأ الشرعية ومضمونه وتحديد عناصره وتبيان أقسامه في النقاط التالية. 

أولا: تعريف مبدأ الشرعية الجنائية
أعطيت العديد من التعاريف لمبدأ الشرعية الجنائية، حيث اختلفت باختلاف الزوايا التي ينظر منها إليه، فاليونانيون قد عبروا عن هذا المبدأ بأنه " الترابط السياسي الذي يضع كل مواطن مكانه في المجتمع"، في حين عبر عنه المجتمع الدولي لرجال القانون المنعقد في نيودلهي سنة 1959 بأنه :" اصطلاح يرمز إلى المثل والخبرة العلمية القانونية التي يجمع عليها رجال القانون في جزء كبير من العالم"، ورأى المؤتمورن أن المبدأ يقوم أو يعتمد على عنصرين أساسيين، هما أنه مهما كان فحوى القانون، فإن كل سلطة في الدولة هي نتاج القانون وتعمل وفقه، والثاني، افتراض أن القانون نفسه يعتمد على مبدأ سام هو احترام حقوق الإنسان، واستخلص المؤتمرون تعريفا ليمدا الشرعية في أنه : " ذلك الذي يعبر عن القواعد والنظم والإجراءات الأساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة، ولتمكينه من التمتع بكرامته الإنسانية"، كما عرف بالعديد من التعاريف التي يمكننا أن نجملها فيما يلي: " نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل"، " النص القانوني الذي يبين الفعل المكون للجريمة ويحدد العقاب الذي يفرضه على مرتكبها"، وهناك من قال بأن الشرعية بإيجاز، تأسيس الجرائم على اعتبارات من مصلحة المجموع واحترام الحريات الفردية، وهناك من قال أنه: سيادة القانون وخضوع الجميع له حكاما ومحكومين[29]، وسيادة القانون في مجال التجريم والعقاب يعني وجوب حصر الجرائم والعقوبات في القانون المكتوب، وذلك بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وبيان أركانها، من جهة، ثم العقوبات المقرر لها ونوعها ومدتها، من جهة أخرى.وهناك من عرفه، أن الشرعية الجنائية تقضي وجوب وجود نصوص قانونية صادرة عن سلطة مختصة لضبط سياسة التجريم والجزاء والمتابعة الجزائية[30]. 

ثانيا: مضمون الشرعية الجنائية
القانون الجنائي بمختلف فروعه يخضع لمبدأ الشرعية، منذ تجريم الواقعة ووقوعها مرورا بمحاكمة الشخص وتوقيع العقوبة عليه وتنفيذها، وفي كل هذه المراحل يخضع القانون المسائل التي تمس بالشخص وحريته وكرامته سواء تعلق الأمر بالتجريم أو العقاب أو الإجراءات أو التنفيذ العقابي تكون النصوص خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية[31]. ومقتضى مبدأ الشرعية الجنائية، أن تراعيه السلطات الثلاث في الدولة في كل تصرفاتها وأعمالها القانونية، فمن جهة القاضي لا يملك تجريم فعل لم يرد نص بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص أو استنتجها عن طريق القياس، ومن ناحية ثانية، فسلطة التجريم والعقاب من اختصاص السلطة التشريعية، وهي وحدها صاحبة الاختصاص، وأن تكون النصوص التي تضعها محددة ولا نصرف إلى الماضي، ولا تملك السلطة التنفيذية ممارسة هذا الاختصاص دون تفويض، وفي الحدود الضيقة التي بينها القانون لهذا التفويض. فمبدأ الشرعية الجنائية يفرض نفسه على المشرع مثلما يفرض نفسه على القاضي، فالأول يحتكر سلطة التجريم والعقاب، بينما الثاني يقع عليه عبء التطبيق السليم لهذه النصوص، احتراما للإرادة العامة، على أن تكون النصوص الجنائية واضحة وضوحا كاملا بما يسمح للقاضي بتطبيقها السليم دون خطأ، حيث إذا جاء النص مبهما أو غامضا، فإن ذلك يمنح القاضي سلطة تحكمية التي أريد القضاء عليها بموجب هذا المبدأ، لذا فالشرعية تستعبد فكرة النصوص التي تشمل ما يسمى بالحالات 
أو النماذج المفتوحة Types ouverts وهي النصوص الذي ما أريد تطبيقها نجد بأنه يدخل تحت نطاقها العديد من الحالات المتشابهة، كالنص " كل فعل ضار بالشعب" أو " كل تصرف يمس المصلحة العامة أو من شأنه المساس بالأمن العام أو النظام القائم"، وفي مجال الإجراءات على المشرع البحث عن توازن مرضي بين حقوق الاتهام وحقوق الدفاع، لأن القانون يحمي الحقوق الفردية بقدر حمايته للمصلحة العامة، أو مصلحة المجتمع، ووجود هيئات قضائية قانونية مشكلة قبل ارتكاب الجريمة، حيث يقتضي المبدأ أن يعرف الشخص المحكمة المختصة مسبقا بمقدار معرفته بالجريمة والعقوبة، وافتراض البراءة، ووقوع عبء الإثبات على النيابة العامة، وعلانية الجلسات حتى يتسنى للرأي العام مراقبة استقلالية السلطة القضائية، واستقلالها عن السلطة التنفيذية. 

الفرع الرابع : الانتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية الجنائية:

في الحقيقة، مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن محل انتقادات في القرن التاسع عشر، أو على الأقل خلال جزء كبير منه، غير أنه تم البدء بتوجيه الانتقادات له مع ظهور المدرسة الوضعية الإيطالية، والمدارس اللاحقة لها، غير أن هذه الانتقادات لم تنل من قيمة وأهمية المبدأ، بوجود الرأي الغالب في الفقه في جانب المدافعين عنه، الأمر الذي كرسه كمبدأ قانوني ودستوري ودولي، وهو ما نبينه باختصار في النقطتين التاليتين.

أولا: معارضي مبدأ الشرعية الجنائية
من بين الانتقادات التي وجهت له، أنه أخذ على المبدأ عدم قدرته على إعطاء تعريف دقيق ومرض للجرائم، حيث هناك العديد من الأفعال التي تعد لا اجتماعية ولا أخلاقية ولا يستطيع المشرع الإحاطة بها، وحصرها من خلال نصوصه، مما يجعل الكثير من المجرمين يفلتون من العقاب، لذا يرى البعض الإفلات من المبدأ أو على الأقل إعطاء سلطة واسعة للقاضي في تفسير النصوص والقياس عليها. كما أخذ عليه، إهماله لشخصية الجاني، كونه هناك الكثير من الأشخاص الخطرين الذي يجب الحجز عليهم حتى قبل ارتكابهم للجرائم. وهناك العديد من الأشخاص لا يمكن القضاء على الخطورة الإجرامية لديهم حتى بعد انقضاء مدة عقوبتهم، ومع هذا النوع لا يستطيع لا المشرع ولا القاضي التحديد المسبق لمدة العقوبة الواجبة التطبيق عليهم، إذ ذلك مرهونا بزوال حالة الخطورة الإجرامية لديهم. وهي الانتقادات التي كان لها صدى عميق على التشريعات الجنائية النازية والشيوعية لغاية سنة 1958، حيث استبعد تطبيق المبدأ نهائيا، وجزئيا في التشريع الإيطالي الفاشي.

ثانيا: أنصار مبدأ الشرعية الجنائية
الانتقادات السابقة، أقلقت كثيرا أنصار مبدأ الشرعية، ودفعهم لعقد العديد من المؤتمرات الدولية للدفاع عنه، مثل المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في باريس سنة 1937، والمؤتمر الدولي للقانون الجنائي الذي انعقد في لاهاي في أوت من سنة 1937 كذلك. وتم الرد على الانتقادات السابقة، حيث رأوا أن إلغائه أو التقييد منه، يعيدنا إلى عهد استبدادية القضاة، بل إلى أخطر من ذلك، حيث أنه في تلك العصور كانت هناك على الأقل بعض المعايير للقضاة ونوع من الضمير يمكنهم من التوفيق بين مصالح المجتمع ومصلحة المتهم على الأقل، في حين اليوم لا يراعي القضاة إلا المعايير السياسية التي تغلبت على مصالح الأفراد، مثلما حدث مع الشيوعية والفاشية وكل الأنظمة الديكتاتورية، وأما بخصوص الاستناد لحالة الخطورة للقول بمعاقبة الأشخاص بمجرد ظهورها لديهم، فتم الرد بالقول: من الذي يحدد هذه الخطورة، فإذا قلنا القاضي فإننا عدنا لعهد التحكم والأهواء، وإن قلنا المشرع فذلك يعني عودة لمبدأ الشرعية الجنائية، كما أنه لا يمكن التسليم بالنقد القائل بأن المبدأ يهمل شخصية الجاني، وذلك بالنظر لما يوفره مبدأ تفريد العقوبة المعمول به في جل الأنظمة العقابية، الذي يخفف من حدة مبدأ الشرعية الجنائية، بإعطاء نوع من الحرية للقاضي في مراعاة شخصية الجاني عن طريق وضع حدين للعقوبة يختار بينهما القاضي، وفقا لشخصية الجاني وظروف ارتكابه للجريمة وحالته. وكذا إقرار نظام التشديد في العقوبة والتخفيف فيها.

الفرع الخامس : الأسس الفلسفية لمبدأ الشرعية الجنائية

مبدأ الشرعية الجنائية وجد نتيجة صراع مرير وطويل ضد التعسف والتحكم والطغيان واستبداد الحكام وتعسف السلطات، وبني على العديد من الأسس الفلسفية التي دفعت به إلى الوجود، حيث يعد اثر من آثار العقد الاجتماعي، وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، أساسه المسؤولية الأخلاقية وقوامه مبدأ العدالة. فهو أثر من آثار العقد الاجتماعي، حيث أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه النظرية التي جاء بها جون جاك روسو، كون العقاب يعد أيضا محصلة تنازل كل فرد عن جزء من حقه الخاص في الدفاع عن نفسه، لتتولاه السلطة العامة نيابة عنه، وهو المعنى الشكلي لمبدأ الشرعية الجنائية. وهو ثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي مونسكيو، حيث مؤدى الفصل بين السلطات أن تحصر مصادر التجريم والعقاب في القانون الذي تصدره السلطة التشريعية، والذي لا تملك السلطة القضائية إزاءه إلا التطبيق[27]. وأساس مبدأ الشرعية الجنائية المسؤولية الأخلاقية، حيث مسؤولية الشخص تتحدد بناء على الذنب والخطأ المنسوب إليه، والصادر عنه بناء على الإدراك وحرية الاختيار، حيث جوهر الخطيئة إدراك عدم مشروعية الفعل ثم إرادة ارتكابه، وهو ما يقتضي أن تكون عدم مشروعية الفعل قد حددتها النصوص العقابية مسبقا، وأنه حتى تتحدد مسؤولية الشخص الجنائية وتقوم، ينبغي توفر الاختيار الحر بين المحظور والمباح من الأفعال، لذا يجب أن يعرف الإنسان سلفا ما هو محظور عليه. وقوام مبدأ الشرعية الجنائية، مبدأ العدالة الذي يعد من الركائز الأساسية لقيام دولة القانون، وهو ما يؤكد فعلا أن مبدأ الشرعية الجنائية أثر من آثار العقد الاجتماعي وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، أساسه المسؤولية الأخلاقية وقوامه مبدأ العدالة، ومرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ سيادة القانون[28]. غير أنه في الشريعة الإسلامية يعد اسمي منه في التشريعات الوضعية، كونه يقوم على قاعدتين أساسيتين، هما " لا حكم لأحكام العقلاء قبل ورود النص"، وقاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة".

المطلب الثاني : أقسام الشرعية الجنائية

في حقيقة الأمر الشرعية الجنائية جزء من الشرعية العامة، لكن مساسها بالحقوق والحريات هو الذي جعلها تبرز على غيرها من أقسام الشرعية الأخرى في الدولة، حيث كلما أطلق لفظ الشرعية، انصرفت الأذهان إلى الشرعية الجنائية مباشرة، وتعني الشرعية الجنائية، شرعية التجريم والعقاب وشرعية المتابعة الجزائية، وهي بذلك تتكون من قسمين رئيسيين، هما الشرعية الموضوعية وتشمل شرعية التجريم والعقاب، والقسم الثاني ويتمثل في الشرعية الإجرائية التي تختص بالإجراءات الواجبة في متابعة الجاني منذ وقوع الجريمة لغاية الحكم عليه نهائيا بحكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي به، ويضيف البعض شرعية التنفيذ العقابي.

أولا: الشرعية الموضوعية( شرعية التجريم والعقاب)
وهي الحلقة الأولى أو القسم الأول من أقسام الشرعية الجنائية، وهو ما يعبر عنه بلا جريمة ولا عقوبة ولا تدبير أمن بغير نص، مما معناه حصر مصادر التجريم والعقاب في النص التشريعي الصادر عن السلطة المختصة بذلك وفقا للأحكام الدستورية في الدولة، وهو ما نص عليه المشرع الجزائري في نص المادة الأولى من تقنين العقوبات، وفي العادة ما يقصد بالشرعية الجنائية هذا القسم دون سائر الأقسام الأخرى. وبالتالي مقتضى هذا القسم من أقسام الشرعية الجنائية، حماية الإنسان من خطر التجريم والعقاب بغير الأداة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب، وزيادة على ذلك أن يكون هذا القانون قبل ارتكاب الفعل، ودون أن يطبق بأثر رجعي، معبرا عن ذلك بعدم رجعية النصوص الجنائية كقاعدة عامة، وحظر القياس على القاضي، في مجال التجريم والعقاب، وإن كان يجوز ذلك في غير مسألتي التجريم والعقاب، سيما فيما يخدم مصلحة المتهم، وكذا إلزام القاضي بمبدأ التفسير الضيق وذلك بإتباع قواعد خاصة في التفسير الكاشف فقط عن إرادة المشرع عند وضع النص. وإن سمح للسلطة التنفيذية بالتجريم في بعض المجالات فإن ذلك يعد استثناء ولاعتبارات تقدرها السلطة التشريعية ذاتها وفي الحدود الضيقة التي بينها الدستور ووفق الضوابط التي حددها – هي الأمور التي نتبينها أكثر عن تناولنا لنتائج مبدأ الشرعية-. غير أن الشرعية الموضوعية تبقى حلقة من حلقات الشرعية الجنائية، لا تكفي وحدها لحماية حرية الإنسان في حالات القبض عليه أو حبسه أو اتخاذ إجراءات المتابعة ضده، أو محاكمته، ومن هنا يبدو قصور القسم الأول للشرعية الجنائية، طالما كان من الممكن المساس بحرية المتهم بغير قانون وبعيدا عن قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، خاصة في حالة إهدار قرينة البراءة وإلزام الشخص على إثبات براءته مع الوضع الذي يفترض الإدانة، لذا كان يجب تكملة الحلقة السابقة، بحلقة أخرى أكثر أهمية، وهي الشرعية الإجرائية.

ثانيا: الشرعية الإجرائية
وهي أن تكون الجهات والأجهزة والإجراءات التي تتبعها هذه الأخيرة مقررة بموجب نصوص قانونية، وهي الحلقة التي تكفل احترام الحرية الشخصية للمتهم، وافتراض براءته في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ ضده، وبذلك تكون الشرعية الإجرائية امتداد طبيعي لشرعية الجرائم والعقوبات، بل في الواقع أكثرها أهمية وأعظمها شأنا، فهي الإطار الذي لا يمكن تطبيق القاعدة الموضوعية إلا من خلاله، وتقوم الشرعية الإجرائية أساسا على افتراض براءة المتهم، وألا يتخذ ضده أية إجراء إلا بنص في قانون الإجراءات الجنائية، والثالث يتمثل في ضرورة إشراف القضاء على كل الإجراءات المتخذة ضده باعتبار القضاء الحارس الطبيعي للحقوق والحريات[32]. حيث أن قرينة البراءة لا تسقط إلا بحكم بإدانة المتهم، وهنا فقط يصبح أمر المساس بحريته أمرا مشروعا بحكم القانون، غير أن ذلك لا يعد حقا مطلقا، بل يجب أن يتحدد نطاقه وفقا للهدف من الجزاء الجنائي، ومن هنا تظهر أهمية الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية، وهي شرعية التنفيذ العقابي.

ثالثا: شرعية التنفيذ العقابي
شرعية التنفيذ العقابي تعد الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية، حيث تقتضي أن يجري تنفيذ الحكم الصادر ضد المتهم وفقا للكيفيات التي حددها القانون، تحت رقابة وإشراف القضاء، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد بهذه المرحلة الذي بدا مع مدرسة الدفاع الاجتماعي، وتبلور مع منظمة الأمم المتحدة التي قامت بإصدار القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة المساجين، التي بينت بدقة المبادئ التي تحكم مرحلة التنفيذ العقابي، مما يعد شرعية لهذا التنفيذ، وبالتالي يمكننا القول أن هذه الحلقة لم تبق مجرد مبدأ دستوري بل ارتقت لمرتبة المبادئ الدولية مع صدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة توصي الدول بضرورة العمل بالقواعد النموذجية الدنيا السابقة، وهو القرار رقم 2858- في 20-12- 1971، والقرار 32/8 في 06-11-1974 وهي القواعد التي عنيت الدول بإدراجها في قوانينها، باعتبار القانون الأداة التشريعية الصالحة للشرعية الجنائية، وهو ما قام به المشرع الجزائري في قانون تنظيم السجون، خاصة القانون الأخير قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين رقم 05-04 المؤرخ في 06-02-2005. وتقوم شرعية التنفيذ العقابي على ضرورة تحديد أساليب التنفيذ وضماناته وأهدافه المنصوص عليها بالقانون المعبر عن إرادة الشعب والذي سمح بالمساس بحرية الشخص أو حياته، وأن يكون تنفيذ العقوبة خاضعا لإشراف قاضي يطلق عليه قاضي تنفيذ العقوبات.

تعليقات